• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العمل والإنتاج في الإسلام

اسرة

العمل والإنتاج في الإسلام

نظّم الإسلام - في مجال العمل والإنتاج مثلاً - العلاقة النسبية بين طاقة الإنسان (أو الجهد البشري) والطبيعة باعتبارها المصدر الأولي للثروة من جهة، وبين الإنتاج وحقّ التملك من جهة أخرى، حين جعل الناتج للمنتج الحقيقي لا للمُستغل، ثم حرّم الاستغلال بشتّى صوره وأساليبه، وشجّع على توظيف القابليات والمواهب، لا بتمليك الإنتاج للعامل فحسب، بل بجعل العمل شرفاً وواجباً وجهاداً، مع نماذج وتطبيقات عملية أدّاها عظماء الإسلام، رسول الله (ص) وأهل بيته (ع)، فيما مارسوه من جهد جهيد في رسم الخطوط العريضة لموارد الكسب الحلال.

ثم اهتّم بمن تعطّل عن العمل، كلّية أو بصورة جزئية، فقرّر التكافل العائلي والتضامن الاجتماعي للعاجزين.

وجعل للثروة المملوكة بطريق مشروع وظيفة اجتماعية لخدمة الإنسان والمجتمع معاً، ومن غير أن تكون لخدمة أحدهما على حساب الآخر.

ومنع من إنتاج أو تداول أو استهلاك السلع والخدمات التي تشيع (الفحشاء والمنكر) في المجتمع أو في نفس الإنسان، منعاً للأمراض الاجتماعية والصحّية والنفسية، وسائر السلبيات التي تنعكس سلبياً كذلك على الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية ونحوها.

وبهذا يكون الإسلام العظيم قد حدّد (مفهوم العمل والإنتاج) بمنحى شامل وتكاملي يحقق المصالح ويدرأ المفاسد في إطار الحفاظ على كرامة الإنسان.

مفهوم العمل والإنتاج:

العمل: هو الطاقة أو الجهد الحركي الذي يبذله الإنسان من أجل تحصيل أو إنتاج ما يؤدي إلى إشباع حاجة معينة محلّلة.

الإنتاج: هو السلع والخدمات التي يساهم الجهد البشري في إيجادها من أجل إشباع حاجة ما.

وهذا الإنتاج قد يكون سلعة، كما قد يكون خدمة. فتكييف الطاقة يتجسّد في إنتاج السلع والخدمات، فالطبيب والنجار والعامل والحمّال، كلّ منهم يكيّف طاقته الإنسانية من أجل إشباع حاجة معينة، لأنّ العمل هو الجهد، أو القوّة البشرية التي تتفاعل مع مختلف العناصر الأولية من أجل توفير سلعة مادّية، أو إشباع حاجة فكرية أو نفسية، كالكرسي والقميص والكتاب، والعلاج الطبي، والقصيدة الشعرية.

وقد حدّد الإسلام مفهوم الحاجة والعمل والإنتاج وبين عناصره في جملة من النصوص والمفاهيم، وأوضح أنّ الطاقة الإنسانية بالتفاعل مع عناصر الطبيعة هي التي تنتج السلع التي يشبع بها الإنسان حاجاته المادّية المختلفة، ويسدّ بها نواقص حياته، كالطعام واللباس والدواء.

وقد نوّه القرآن الكريم وأشار في مواضع، وصرّح وأوضح في مواضع أخرى، أنّ الطبيعة هي مصدر الثروة، وهي مستودع الحاجات البشرية، وأنّ هذه الثروة الطبيعية لا يمكن استثمارها والاستفادة منها إلّا بعد أن يبذل الإنسان الجهود اللازمة، فتتم عملية التفاعل بين الجهد والطاقة الإنسانية من جهة، وبين عناصر الطبيعة وخيرات الأرض من جهة أخرى لإشباع كلّ حاجة إنسانية تتركّز عناصرها في الطبيعة بشكلها الحر الطليق، قبل أن تمسها يد الإنسان.

قال تعالى:

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) (يس/ 71-73).

(وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (الحجر/ 19-21).

فهذه النصوص القرآنية الكريمة وغيرها توفر لنا جملة من المفاهيم والأفكار الأساسية التي تحدّد لنا بصورة واضحة ودقيقة رأي الإسلام الذي يؤكّد أنّ الأرض وما فيها هي مصدر الثروة، ومنبعها الأساس، وهي مخلوقة، ومجعولة للإنسان:

(وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) (الرحمن/ 10ـ12).

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(ع):

"مَن آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق، وكيف لا يحظره وما أصاب فيه فهو لربّه الذي آجره".

عن عقبة بن خالد قال: سألت أبا عبدالله الصادق (ع) عن رجل أتى أرض رجل فزرعها بغير إذنه، حتى إذا بلغ الزرع جاء صاحب الأرض فقال:

زرعت بغير إذني فزرعك لي، ولك عليَّ ما أنفقت. أله ذلك أم لا؟

فقال (ع):

"للزارع زرعه، ولصاحب الأرض كري أرضه"[1]

وأنّ مفهوم الإسلام عن الطاقة البشرية هو أنّ الإنسان وحدة حياتية قائمة بذاتها لها حاجاتها من الخدمات والسلع والمنافع تقوم هي ذاتياً بتوفيرها وصيانة نفسها باستعمال الطاقة المخزونة فيها، بالتفاعل مع العناصر الأولية والأساسية للإنتاج.

والإنسان الذي صرف هذه الطاقة من كيانه، هو صاحب الحقّ في امتلاك الفائض منها عن حاجته وليس من حقّ أحد أن يستولي عليها.

إلّا أنّ الإنسان يملك حقّ التصرّف وحرّية التعاقد لتأجير هذه الطاقة لغيره لقاء أجر معين، وبذا يتنازل الأجير عن قدر من نتاجه وجده الذي يبذله لغيره بمقتضى هذا التعاقد والرضى.

وهذا التعاقد هو المبرر الشرعي لامتلاك المؤجر الفائض من جهد الأجير على أُجرته مقابل توفير فرص العمل له.

وإذن فالإسلام يرى أنّ هناك عنصرين فقط يشتركان في الإنتاج الذي يصنعه جهد الإنسان بالتفاعل مع الطبيعة الحرة، كإحياء الأرض وحفر المنجم ... إلخ:

1ـ الطبيعة (المادّة الأولية).

2ـ الجهد البشري.

قال المحقق الحلي:

"لو دفع إنسان دابه، وآخر راوية إلى سقاء على الاشتراك في الحاصل، لم تنعقد الشركة، وكان ما يحصل للسقاء، وعليه أُجرة مثل الدابة والراوية"[2].

وبالتأمّل في هذا النص الفقهي، ندرك أنّ الجهد هو العنصر الذي يخلق روح الإنتاج الجديدة، وبالتفاعل مع العناصر الأولية ـ مادّة الإنتاج ـ، وأنّ رأس المال وأدوات الإنتاج في المثال عامل مساعد على الإنتاج وتستحق أُجرة المثل.

ونستنتج من النص الفقهي الآنف الذكر أيضاً أنّ المباشر لعملية الإنتاج هو الذي يملك ما ينتجه إذا كانت المادّة الأساسية التي يدور الجهد حولها ثروة طبيعية لم يتدخّل بتكييفها أو التفاعل معها جهد بشري سابق، كالزرع في مثال الأرض التي زرعها المزارع بغير إذن المالك.

وعلى أساس هذا المفهوم الاقتصادي نبني خطوات ذات أهمية بالغة الخطورة تنظّم العلاقات الاقتصادية والتوزيع والتملك، وتحدّد الأجور في مجالات الإنتاج والحيازة، لأنّ هذه النظرة يتوقف عليها تقويم الجهد البشري ومنحه ما يستحق من الأهمية، وربط كافة آثاره الإنتاجية به، وإعادتها إليه، إلّا مارضى المنتج أن يتنازل عنها بالعقد والمصالحة... إلخ.

فالإنتاج[3] كله ملك للمنتج ـ للجهد الإنساني ـ لذلك صرّح النص الفقهي بعدم انعقاد الشركة، فقال: "لم تنعقد الشركة" لإيمان المذهب الاقتصادي في الإسلام بأنّ كلّ العناصر التي يستخدمها الإنسان في عملية الإنتاج لا تعتبر مشاركة له، ولا مكافئة لجهده.

وعلى هذه النظرة يتوقف تشجيع الإنتاج ودفع العامل والمباشر الفعلي للإنتاج إلى توظيف كلّ طاقاته المادّية والأدبية في الإنتاج وتحسينه، وبذا تتحقق العدالة الاقتصادية التجاوب مع منطق الحكمة الإلهية في العلاقة بين طاقة الإنسان والطبيعة والإنتاج والتملك. ففي الطبيعة طاقات وإمكانات إنتاجية هائلة، كالنبات والماء والنفط والشمس والحديد والحيوانات... إلخ.

وفي كيان الإنسان قوى حركية وفنية وعقلية ضخمة بإمكانها أن تتفاعل مع عناصر الطبيعة، فتوفر الحاجة للجميع، وأن تبعد الفقر والجوع والحرمان عن كلّ إنسان يعيش على هذه الأرض لأنّ الله سبحانه قد جعل في كلّ إنسان من القدرة والطاقة ما يمكّنه من توفير لوازم الحياة ومستلزمات العيش، لو فسح لها الإنتاج من جهة، ورفع الظلم والسيطرة والاستغلال من جهة أخرى.

الحاجة والإشباع:

تعتبر الحاجة إلى الشيء هي السبب الأعمق في إنتاجه وإيجاده، ولولا الحاجة إليه لكان وجوده عبثاً لا مبرر له، والسعي من أجله تضييعاً للجهد والمال والوقت الإنساني الثمين، وقد حرّم الإسلام العبث.

وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا التحريم بصيغة الاستنكار الذي وجّهه إلى أولئك الذين يبنون ويشيدون للعبث واللهو، والإسراف فقال:

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ[4] آيَةً تَعْبَثُونَ) (الشعراء/ 128).

وكما حرّم القرآن بنقده اللاذع هذا العبث، وهو تضييع الجهد والمال والوقت من دون أن يكون هنالك مبرر معقول لهذا الإتلاف، حرّم كذلك الإسراف، وهو الاستعمال الزائد على الإشباع ـ إشباع الحاجة - كما في قوله تعالى:

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31).

ولا يخفى ما لتحريم هذا التصرّف الشاذ ـ العبث والإسراف ـ من أثر إيجابي على توازن الحياة الاقتصادية، وحفظ الثروة البشرية، وهذا التحريم للإسراف والعبث في المأكل والملبس والزينة والسكن والإنفاق... إلخ، هو دعوة للتنظيم وضبط موازنة الحياة الاقتصادية، وتحقيق التوازن بين طرفي المعادلة، أي بين الحاجة والإشباع.

وبذا نظر الإسلام إلى الحاجة البشرية كحقيقة يجب الاستجابة لها إلى حدّ الإشباع دونما نقص أو إسراف. قال تعالى:

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد/ 8).

(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67).

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء/ 27).

وقد أقرّ الإسلام إشباع الحاجات الإنسانية بمختلف أنواعها سواء منها الخدمات أو الحاجات المادّية، كالعلاج الطبي والتعليم والطعام والشراب واللباس والسكن.. إلخ.

أو الحاجات الفكرية والنفسية كالأدب والفن والزينة ووسائل الترويج.. إلخ.

الإشباع الشاذ لا يعبّر عن حاجة:

عندما نظر الإسلام إلى الإنسان كوحدة حياتية لها حاجاتها ونظام حياتها المناسب لتكوينها، اعترف له أيضاً بحاجاته الطبيعية المرتبطة ارتباطاً فعلياً بكيانه، وأباح له طُرق الإشباع اللازمة لسدّ تلك الحاجات.

وانطلاقاً من هذا المفهوم اعتبر التشريع الإسلامي كلّ إشباع خارج عن هذه الحاجات الطبيعية للإنسان حالة من حالات الشذوذ النفسي والغريزي التي يجنح لها المنحرفون تحت تأثير ظروف حياتية شاذة، واعتبر هذا الشذوذ تعبيراً منحرفاً وإشباعاً خارجاً على نظام الحياة، لا يعبّر عن حاجة أساسية ترتبط بتكوين الإنسان ونظام حياته، ولكنّه تنفيس ملتوي يُعبّر عن عقدة الشذوذ والانحراف التي يعاني منها هذا الصنف من الناس.

ولم يكن الإسلام ليسمح للشاذين والمنحرفين أن يعملوا على تنمية هذه الاتجاهات الشاذة، لتنمو وتعيش في المجتمع الإنساني، كظاهرة قانونية مشروعة، فهو إن فعل ذلك عمل على هدم نظام الحياة، وانتقل من القانون الطبيعي والقاعدة الإساسية إلى قبول الشذوذ والانحراف كبديل للوضع الطبيعي، فيحل الشذوذ عندئذ محل القاعدة والفوضى محل النظام.

ولم يكن الإسلام إلّا رسالة الضبط والتنظيم والقانون، لذلك عمد إلى تحريم الإنتاج والتداول والاستهلاك والانتفاع بكلّ سلعة تشيع شذوذاً أو تستجيب لحالات الانحراف المرضي، كالخمر والزنا واللواط والقمار والرقص والاحتكار والربا.. إلخ، فمنع إنتاج الآلات والأدوات والخدمات أو بذل الجهود وإنشاء المؤسسات التي توفّر الظروف المشجعة على إيجاد وبقاء هذه الظواهر الشاذة، لأنّ الإنسان بتكوينه الطبيعي السليم لا يحتاج إلى الخمر ولا إلى الرقص، ولا يصح له أن يتحوّل من العلاقة الزوجية المشروعة إلى الزنا واللواط.

والإنسان في حالته الطبيعية يجب أن يعمل ويكسب لا أن يتّخذ القمار والاحتكار وسيلة لاقتناص جهود الآخرين، ليعيش في خمول وترهّل على الكسب الشاذ المدمّر لنظام الحياة المعاشي.. إلخ.

وبهذا التقويم الموضوعي للحاجة والإنتاج والإشباع الطبيعي للحاجات، عمل الإسلام على تنظيم الحياة الاقتصادية وصيانتها من العبث والإسراف والتبذير، فحفظ الجهد البشري والثروة البشرية ليوظفهما في دائرة نشاطهما المقرّر لهما حسب منطق النظام الوجودي العام.

الحثّ على العمل والإنتاج:

لقد قدّس الإسلام العمل وكرّم العاملين والمنتجين واعتبره شرفاً وجهاداً وصورة معبّرة عن ذات الإنسان واستعداداته، فبالعمل يؤدي الإنسان رسالته الإعمارية في هذه الأرض، وبالعمل يتطابق مع دعوة القرآن إلى الإعمار والإصلاح في هذه الأرض. قال تعالى:

(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود/ 61).

وقيل إنّ رسول الله (ص) قد إجتاز على عامل من الأنصار فرأى خشونة في يده فقال (ص) له: ما هذا الذي أرى في يدك؟ قال: إنّه أثر المسحاة، اضربُ، وانفقُ على عيالي!! فأخذ النبيّ (ص) يده، وجعل يقبّلها، ويلوح بها أمام أصحابه قائلاً: "هذه يد يحبّها الله".

وانطلاقاً من هذه الدعوة، راح الإسلام يحثّ على العمل ويحارب الكسل والاتكالية ويدعو إلى الجد وبذل الجهد من أجل تحصيل الرزق والانتفاع بطيّبات الحياة وإعمار الأرض وإصلاحها.

وقد ضرب الرسول (ص) وخلفاؤه أروع الأمثلة في الجد وممارسة العمل والنزول إلى ميدان الحياة، فلم يستخفوا بالعمل ولم يحتقروا العاملين، بل كرّموا العمل والعاملين واستنكروا الخمول والاتكالية والكسل، لأنّ العمل في عرف الإسلام هو بذل الجهد من أجل إشباع حاجة إنسانية محلّلة، وهو ضرب من ضروب العبادة وتحقيق لإرادة الله وحكمته في الأرض والسعي لبناء الحياة وفق مشيئته تبارك وتعالى.

ولكي يحقق الإسلام فكرته هذه جعل إشباع الحاجات الشخصية واجبة من حيث الأساس على الإنسان نفسه، لكي لا يتوانى عن الكسب ومباشرة العمل بنفسه، فإنّ هو عجز عن توفير حاجاته كاملة انتقلت مسؤولية إشباع هذه الحاجات إلى الداخلين معه في علاقات النفقة والتكافل، كالآباء والأبناء، فإذا تعذّر النهوض بمسؤولية الكفالة هذه وإشباع الحاجات الضرورية انتقلت المسؤولية إلى المجتمع والدولة الإسلامية.

وقد جسّد عظماء الإسلام هذه الأفكار حقيقة عملية في ساحة العمل، فمارسوا الأعمال والأشغال بأيديهم، فحرثوا الأرض وسقوا وزرعوا واحتطبوا ومارسوا الكثير من الأعمال، فما أنفوا من عمل حلال وما ترفّعوا عليه وإن كان متواضعاً بسيطاً في أعين الناس، لأنّ هؤلاء العظماء لم يعدوا نوع العمل أو ضعته، بل عرفوا قيمة الإنسان في ذاته، وفهموا العمل المباح وسيلة للكسب وإدامة الحياة وإنعاشها، ليكونوا قدوة للأُمّة المسلمة التي أراد الله لها أن تكون أُمّة منتجة معطاءة لا تعرف الكسل ولا تركن إلى الاتكالية والخمول لئلا يتدهور كيانها وتضعف مكانتها.

وقد جاء في الحديث الشريف: "لئن يأخذ أحدكم حبله، فيذهب به إلى الجبل يحتطب ثم يأتي به فيحمله على ظهره خير له من أن يسأل الناس".

وبنفس الوقت الذي حثّ فيه الإسلام على العمل، تراه قد أكّد تأكيداً قاطعاً على أن يكون هذا العمل شريفاً لا وضيعاً، ومن الأعمال الوضيعة التي يرفضها الإسلام هو العمل مع الظالمين في الميادين الذي يتحقق فيه ظلمهم بشكل جلي واضح، وحول هذا الشأن يقول الغزالي: "لا تكن قطباً تدور عليك رحى ظلمهم، وجسراً يعبرون بك إلى بلادهم، وسلماً يصعدون منه إلى ضلالاتهم".

وقد استجابت الطبقات الحيزة في العصور الإسلامية الأولى إلى نداء أهل البيت (ع) فلم تتصل بالجهاز الرسمي آنذاك ولم تتعامل معه، وكان مَن يتصل بهم يقابل بالاستهانة والتحقير، فهذا إسماعيل بن إبراهيم القرشي لما ولى القضاء كتبَ إليه ابن المبارك هذه الأبيات:

يا جاعل العلم له بازياً

يصطاد أموال المساكين

تحتال للدنيا ولذاتها

بحيلة تذهب بالدِّين

فصوت مجنوناً بها بعدما

كنت دواء للمجانين

أين رواياتك فيما مضى

عن ابن عون وابن سيرين

أين رواياتك في سردها

في ترك أبواب السلاطين

إن قلت أكرهت فذا باطل

زل حمار العلم في الطين

 

المال والثروة في خدمة الإنسان:

مَن يتابع آيات القرآن ويحاول أن يستنتج من خلالها مفهوم الإسلام عن الثورة والمال والسلع وكلّ ما يمكن أن ينتفع به الإنسان، يجد أنّ القرآن ينظر إلى كلّ هذه الموجودات على أنّها وسائل لسد الحاجة وإشباع الرغبات الإنسانية المباحة ليس إلّا.

وهو دوماً يحثّ الإنسان على الانفصال النفسي عنها، وفك رباط التعلق بها، لذا فهو دائماً يذم حبّ المال وجمعه وتكديسه، واكتنازه من أجل الإثراء وتنمية الملكية من غير حاجة إليها وينهى عن هذه الممارسات الاقتصادية الضارة ويقرّر: إنّ للمال والثورة والمنتجات دوراً اقتصادياً وخدمة اجتماعية يؤديها من أجل إدامة الحياة.

ولا يصح أن تتحوّل هذه الموجودات إلى غاية تتجه إليها مساعي الإنسان وتتركز فيها جهوده واهتماماته، لذلك حرّم الإسلام الاكتناز وتكديس الثروة وحبسها عن الجريان في مسارب الحياة الاقتصادية.

ويؤكّد الإسلام هذا المفهوم الاقتصادي الخطير ويعمل على غرسه وتنميته بطرق روحية وقانونية لكسر طغيان حبّ المال والإثراء الفاحش، ومحاربة الاستغلال والظلم الاقتصادي من أجل أن يأخذ المال والثروة دورهما الطبيعي في جسم المجتمع الإنساني، وتشبع كلّ الحاجات فيه من دون أن تستأثر فئة بالمنافع ووسائل الثروة، أو تثرى على حساب طبقات مستضعفة فقيرة.

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة/ 34).

(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التغابن/ 16).

(مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر/ 7).

(قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) (إبراهيم/ 31).

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)  (المعارج/ 24-25).

وإلى جانب هذه المقتبسات القرآنية نقرأ في نصوص السنّة ما يوضح ويشرح أهداف القرآن، ويوسع مدارات الفكر الاقتصادي، وهي جميعاً تسلك كقواعد ومنطلقات أساسية لإشادة المذهب الاقتصادي في الإسلام.

والذي نعرضه هنا من نصوص هو بعض من مئات الآيات والأحاديث والنصوص التي تحدّثت عن موضوع المال والثروة والإنتاج والتوزيع، وموقف الإسلام الواضح من هذه المفردات الاقتصادية الخطيرة في حياة الإنسان الاجتماعية والمعاشية.

وكما قرأنا في القرآن الكريم طائفة من الآيات والنصوص التي تحدّثت عن المال والثروة، نقرأ في السنّة أيضاً ما يعالج نفس الموضوعات ويشرح مفاهيم القرآن، نختار منها:

"إنّما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء، ومعونة للفقراء، ولو أنّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً، ولاستغنى بما فرض الله له، وإنّ الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلّا بذنوب الأغنياء... إلخ"[5].

ونقرأ في كتاب الإمام عليّ (ع) لمالك الأشتر الذي حدّد فيه مسؤولية الدولة الإسلامية.

"ثم الله الله في الطبقة السُّفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزّمنى، فإنّ في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، واحفظ الله ما استحفظك من حقّه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غَلات صوافي الإسلام".

حقوق العامل في الإسلام:

إنّ تشريعات الإسلام بالنسبة لحقوق العامل تنوّعت حسب ما تقتضيه مصلحة العامل، فقد شرّع ملكية العامل واختصاصه وذلك في المواد الأولية والطبيعية والاستخراجية، وكذا نرى الإسلام قد حثّ على المضاربة لتنمية الحركة الاقتصادية، وتشغيل الأيدي العاطلة. ومن الحقوق التي يتمتع بها العامل المضارب في الإسلام اقتطاع نفقات السفر للمضاربة من رأس المال المضارب به لا من نفقته الخاصّة، فقد ورد عن الإمام موسى الكاظم (ع): "المضارب ما أنفق في سفره فهو من جميع الملل فإذا قدم البلد فما أنفق من نصيبه. والعامل أمين غير مسؤول عن المال لو تلف كلّه أو بعضه لا يضمنه إلّا بالخيانة كما لو اشترى لنفسه شيئاً فأدى الثمن من ذلك المال، أو سافر مع نهي ربّ المال عن السفر فإنّه يكون بذلك ضامناً".

إنّ صحة العامل تتأثر تبعاً لما يبذله من جهد خلال عمله، فكلّما طالت ساعات العمل، كان لذلك أثره السيء على صحّة العامل بالإضافة إلى أنّها تؤدي إلى ضعف الإنتاج كماً ونوعاً. وقد حدّدت منظمة العمل الدولية ساعات العمل بثماني ساعات يومياً، أمّا الإسلام فقد سبقهم إلى ذلك حيث يشير الخبر الشريف: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان والتُّقاة الذين يعرِّفونكم عيوبكم، ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم".

وبذا يوافق الإسلام مع ما جاء من تخفيض ساعات العمل الذي تضمنته فقرات قانون (الإصلاح الصناعي) الأمريكي إلى 40 ساعة أسبوعياً، والذي أقرته كلّ من إيطاليا وفرنسا ونيوزيلندا.

وأمّا الإضراب السياسي الذي يقصد منه إعلان السخط على الحكم القائم ومعارضة المسؤولين، فإن كان باعثه إقدام الحكومة على زج البلاد في معاهدة استعمارية تضر بصالح المسلمين وتطوح باستقلال البلاد، أو أنّ الحكومة تشرع من القوانين ما لا يقره الإسلام، فإنّ مقاومة ذلك الحكم ولو بإضراب العمّال عن العمل يكون واجباً مقدساً يجب تنفيذه وبالخصوص إذا صدر أمر من جهة شرعية معروفة.

وكذا فإنّ للعامل حقّ في فسخ عقد العمل الذي أقرّه مع ربّ المال إذا ظهر غُبن في الأجور المعطاة له أو إجبار ربّ المال العامل على القيام بأمور خارج نطاق العقد المبرم بينهما.

إنّ تحديد الأجور من أهم القضايا الاجتماعية، وذلك لأنّ مستوى الأجر يحدد فعلاً مستوى معيشة العامل، وقد حرص الإسلام على أن تكون الأجور عادلة. وعلى ربّ العمل أن يهيئ الوسائل الوقائية في المعمل لحماية العمال من الحوادث فإن قصّر في ذلك يكون ضامناً لما أصابهم من تلف.

وكذا لا يجبر العامل على العمل الإضافي إلّا لضرورة ويُعطى أجر هذه المدة الإضافية. وكما ذكر الإضراب السياسي نذكر هنا الإضراب الخاص للعمّال ويكون ذلك لأجل إرغام ربّ العمل على زيادة الأجور إذا كانت لا تتناسب والحياة المعيشية أو ما يمر به البلد من ضعف القدرة الشرائية بسبب زيادة للتضخم، وكذا إذا كان الإضراب لأجل تقليل ساعات العمل إذا كانت تسبب ضرراً فعلياً للعمّال. وقد أقرّ التشريع الإسلامي هكذا نوع من الإضراب إلّا إذا كان العامل مستأجراً على العمل في وقت خاص فليس له حينذاك المشروعية في الإضراب.

إنّ التشريع الإسلامي لا يُخالف تشكيل النقابة بشرط أن لا تتنافى مقرراتها مع التعاليم الدينية. ومن أهداف النقابة بشكل عام:

1 ـ التوسط لدى أرباب العمل لتحسين شروط العمل كإدخال المكننة الحديثة التي تخفف العبء عن العامل.

2 ـ إنشاء المؤسسات الاجتماعية والثقافية التي تحسّن من مستوى العمّال وأدائهم.

3 ـ تمثيل العمّال في المنظمات التي تتناول قضايا العمل كتحديد الأجور بشكل يتناسب والقدرة المعيشية للدولة.

4 ـ توفير فرص العمل لدى الدولة والقطاعات الخاصّة لتخفيف من العطالة.. وهذه الأهداف جميعها لا تتنافى مع المبادئ الإسلامية، بل ترى الإسلام يشجّعها ويعمل على ازدهارها وتهيئة الأجواء لها.

الهوامش

[1] - الكليني، الفروع من الكافي، ج5 ، كتاب المعيشة، ص297.

[2] - الحلي، أبو القاسم نجم الدِّين جعفر بن الحسن، شرائع الإسلام، ج 2، ص 377.

[3] - الإنتاج الذي يصنعه الجهد الإنساني بالتفاعل مع عناصر الطبيعة الحرة.

[4] - الريع: مرتفع الأرض. والخطاب القرآني موجه إلى الذين كانوا يبنون أبنية للهو (العبث والفساد).

[5] - لذلك منعت الشريعة الإسلامية إعطاء الزكاة للفقراء القادرين على الكسب والعمل، إلّا إذا خرجوا للتكسّب ولم يحصلوا على شيء.

ارسال التعليق

Top